تنازع القوانين- الدكتور فؤاد ديب


المحامية نور جلال رمضان المحامية نور جلال رمضان
تنازع القوانين- الدكتور فؤاد ديب
لطلاب ماجستير قانون الأعمال الدولية
كلية الحقوق – دمشق2009
ملخص
الفرق بين التحكيم الدولي(الخاص) و التحكيم الدولي(العام):
1-    الشكلية: إن إجراءات التحكيم بين الدول هي أكثر شكلية في التحكيم الدولي العام       و ذلك لاعتبارات تتعلق بالسيادة و بالحقوق الدستورية أو بالمصالح السياسية للحكومات.
2-    الرقابة  الوطنية: إن التحكيم التجاري بين الدول لا يخضع لأي رقابة وطنية أو دولية , أما التحكيم الدولي المتعلق بالقانون الخاص فيخضع لأشكال مختلفة من الرقابة القضائية سواء قبل صدور القرار التحكيمي أم بعد صدوره.
3-    التنفيذ: ينطوي التحكيم الدولي الجاري في مسائل القانون الخاص على طرق محددة للتنفيذ , ففي معظم الحالات لا يتم تنفيذ القرار التحكيمي مباشرة من قبل المحكوم عليه إلا إذا تم اكساؤه صيغة التنفيذ , أو بعد إخضاعه لإجراءات معينة في البلد المطلوب فيه التنفيذ , أما التحكيم بين الدول فلا يتطلب مثل هذه الإجراءات و يبقى مرتبطا بحسن نوايا الدول.
4-    النشر: في التحكيم بين الدول لا بد من نشر قرار هيئة التحكيم و كذلك إجراءاته , أما في التحكيم الدولي في مسائل القانون الخاص فإن قرار المحكم أو هيئة التحكيم          و إجراءات التحكيم فهي من حيث المبدأ سرية و لا تنشر , و إن كان لا بد من نشرها أحياناً فلا يذكر في النشر أسماء الخصوم , ما لم يتفق هؤلاء على خلاف ذلك.
 
نطاق التحكيم الدولي:
1-    إن نطاق التحكيم الدولي في مسائل القانون الخاص يتسع ليغطي كل المنازعات التي يحكمها القانون الخاص أصلاً و يجوز فيها التحكيم, مثال: المنازعات المتعلقة بالعقود التجارية, عقود العمل, الاستثمارات و غيرها من المنازعات.
2-    إن الدول تختلف في تحديد المسائل التي يجوز فيها اللجوء إلى التحكيم, و هذا الخلاف يثير مشكلة تحديد القانون الواجب التطبيق على مدى قابلية موضوع النزاع للتحكيم.
3-    إن التحكيم التجاري الدولي هو الذي يحتل مكان الصدارة في إطار العلاقات الخاصة الدولية.
4-    أصبح التحكيم الدولي في العصر الحالي , الوسيلة الاعتيادية لحل المنازعات في بعض ميادين التجارة الدولية , و لا سيما تلك الناجمة عن العقود الدولية.
5-    تطورت أشكال النشاط الاقتصادي الدولي و أصبحت أكثر تعقيداً , مما أدى إلى ازدياد المنازعات الناجمة عن هذا التطور.
6-    من الملاحظ أن غالبية العقود الدولية تكاد لا تخلو من شرط التحكيم.
 
أسباب تفضيل المشتغلين بالتجارة الدولية للتحكيم الدولي كمرجع لحل النزاعات:
1-    لاعتبارات عملية و مادية و قانونية و حتى سياسية , أهمها تقليص الوقت و النفقات      و تبسيط الإجراءات.
2-    الرغبة في الخضوع لقواعد أكثر تلاؤماً مع خصوصية العلاقات التجارية الدولية         ( كسرية التحكيم مثلاً).
3-    يمكن عن طريق التحكيم الدولي تجاوز مساوئ النظم القانونية الوطنية المتعلقة بالتحكيم, و التغلب على حالة الاضطراب التي يعيشها القانون الدولي الخاص.
4-    الأزمات الاقتصادية قد أدت على غرار الازدهار الاقتصادي إلى رفع نسبة اللجوء للتحكيم , بحكم ازدياد المنازعات الناجمة عن هذه الأزمات.
 
طرق التحكيم الدولي:
1-     التحكيم النظامي ( المؤسساتي) : هو التحكيم الذي يتم عن طريق منظمات مهنية أو مؤسسات دائمة متخصصة في التحكيم سواء أكانت عامة أم خاصة , و يستند غالباً هذا النوع من التحكيم إلى شرط التحكيم المنصوص عليه في العقد الأصلي , في وقت لم يكن فيه أي نزاع بين أطراف العقد.
2-     التحكيم العرضي ( الفردي): هو التحكيم الذي يقوم به أشخاص محددين دون اللجوء إلى المنظمات أو المؤسسات, و هذا النوع من التحكيم هو من الناحية التاريخية الأقدم,     و يستند غالباً إلى اتفاق التحكيم الذي يبرمه الأطراف عند حدوث النزاع.
3-     التحكيم نصف النظامي: و هو في واقع الأمر تحكيم عرضي يستند إلى نظام للتحكيم مطبق لدى أحد مؤسسات أو مراكز التحكيم الدولية أو إلى بعض أحكام هذا النظام      ( مع إمكانية استبعاد أحكامه الأخرى من قبل أطراف النزاع ) , و من خصائص هذا النوع من التحكيم أنه يجمع بين ميزات التحكيم النظامي و التحكيم العرضي.
 
يوجد نوعان من مؤسسات التحكيم:
1-    مؤسسات شاملة تنظر في مختلف أنواع النزاعات, مثل: غرفة التجارة الدولية بباريس, جمعية التحكيم الدولية في نيويورك, و محكمة لندن للتحكيم الدولي.
2-    مؤسسات متخصصة في نوع محدد من أنواع النزاعات  المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية الدولية , مثل مركز التحكيم البحري في باريس , و جمعية لندن لتجارة الحبوب.
 
المبادئ التي يقوم عليها تنظيم التحكيم الداخلي:
1-    تعزيز فعالية اتفاقية التحكيم و ذلك عن طريق تكريس مبدأ استقلاليتها عن العقد الأصلي من جهة, و توسيع نطاقها من حيث الأشخاص التي يمكن أن تكون طرفاً فيها.
2-    تكريس مبدأ حرية المتعاقدين في تحديد إجراءات التحكيم .
3-    تكريس مبدأ حرية المتعاقدين في تحديد القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع  و اتفاقية التحكيم و مشارطة التحكيم.
4-    تأمين فعالية للقرار التحكيمي و ذلك بمراعاة تطبيق قواعد محددة من بينها قواعد تنازع القوانين .
5-    إن عدداً كبيراً من الدول قد تأثر بقواعد القانون النموذجي في التحكيم التجاري الدولي.
 
إن قراءة سريعة للتشريعات الحديثة المتعلقة بالتحكيم تشتمل على الملاحظات التالية:
1-    إن الهدف من الإصلاحات التشريعية الجديدة لا يستند فقط إلى الرغبة في تشجيع التحكيم الدولي و جعله أكثر فاعلية , و إنما يستند أيضاً لاعتبارات اقتصادية وطنية هامة.
2-    إن من أبرز التشريعات الحديثة في مجال التحكيم الدولي هو التشريع الفرنسي, الذي نلاحظ فيه تكريس المعيار الاقتصادي في الصفة الدولية للتحكيم, و منح المحكم الدولي حرية واسعة.
3-    إن عدداً كبيراً من الدول قد تأثرت بالتعديلات الفرنسية و القضاء الفرنسي.
4-    من الملاحظ وجود تباين بين هذه التشريعات حول العالم.
 
القواعد التي يجب أن يلتزم بها المشرع الوطني عند وضع تشريعات تحكيمية جديدة:
1-    مسايرة تطور الاجتهاد القضائي و التحكيمي الوطني و الدولي.
2-    وضع قواعد خاصة بالتحكيم الدولي.
3-    تحديد إطار التحكيم التجاري الدولي و مضمون قواعده و مجال تطبيقه.
4-    التقليل من تدخل القضاء الوطني .
الصفة الدولية للتحكيم
غالباً ما تكون المنازعات المعروضة على التحكيم الدولي ناتجة عن عقد دولي. و العقد الدولي, كما يعرفه فقهاء القانون الدولي الخاص , هو العقد الذي يتضمن عنصراً أجنبياً بالنسبة إلى دولة معينة , أي العقد الذي يتصل بأكثر من دولة بحكم عناصره المختلفة . و هو بحكم طبيعته الدولية يخضع لقواعد القانون الدولي الخاص لمحاكم الدول التي تنظر في النزاع القائم بين أطراف هذا العقد. و الأصل أن تعرض المنازعات المتعلقة بالعقود الدولية على محاكم الدول إلا أن أطراف هذه العقود قد يتفقون أثناء إبرام العقد  على إخضاع أي نزاع ينشأ عن تنفيذه إلى التحكيم , و ذلك عن طريق إدراج نص في العقد بهذا المعنى يسمى شرط التحكيم , أو قد يتفقون بعد إبرام العقد و أثناء تنفيذه و عند قيام نزاع بينهما على عرض هذا النزاع على التحكيم و هذا ما يسمى باتفاق التحكيم .
  و في التحكيم تتدخل عناصر جديدة على عناصر العقد, مثل مقر التحكيم و جنسية المحكمين و غيرها, و أهمية هذه العناصر هي في تقرير الصفة الدولية للتحكيم.
و تميز الغالبية العظمى من الدول, بين التحكيم الوطني و التحكيم الأجنبي, و تستند في ذلك على عناصر مختلفة, إلا أن غالبية الدول تأخذ بعين الاعتبار مقر التحكيم أو مكان صدور حكم المحكمين, و ذلك لتحديد الصفة الوطنية أو الأجنبية لحكم المحكمين. ففي سوريا مثلاً العبرة لمكان صدور حكم المحكمين, أي يعتبر التحكيم وطنياً إذا تم صدور قرار المحكمين في سوريا, و في هولندا أيضاً العبرة لمكان صدور حكم المحكمين. و هناك دول أخرى تأخذ بمعيار القانون المطبق على التحكيم, فإذا كان قانوناً وطنياً كان قرار المحكمين وطنياً, و هذا ما كان عليه الحال لدى القضاء الفرنسي حتى عام 1982.و هناك دول أخرى تأخذ تشريعاتها في مجال التمييز بين التحكيم الوطني و الأجنبي بأكثر من معيار, مكان صدور حكم المحكمين أو القانون المطبق على التحكيم كما هو عليه الحال في القانون اليوغسلافي.
و من الملاحظ أن بعض الدول أخذت تميز صراحة بين التحكيم الدولي و التحكيم الوطني إلى جانب التمييز على صعيد تنفيذ أحكام المحكمين بين حكم المحكمين الوطني و حكم المحكمين الأجنبي, كما هو عليه الحال في التشريعات السويسرية و الفرنسية الحديثة.
فالمشرع السويسري كرس فصلاً خاصاً للتحكيم الدولي في القانون الفدرالي المتعلق بالقانون الدولي الخاص , و يتبين من أحكام هذا القانون أن المشرع السويسري قد قصد بالتحكيم الدولي , التحكيم الذي يكون مقره في سويسرا , و كان موطن أحد أطراف عملية التحكيم على الأقل أو مسكنه المعتاد خارج سويسرا وقت إبرام اتفاقية التحكيم. فالصفة الدولية للتحكيم في نظر القانون السويسري تستند إلى معيارين مرتبطين هما: مقر التحكيم   و يجب أن يكون في سويسرا, و موطن أحد طرفي اتفاقية التحكيم أو سكنه المعتاد و يجب أن يكون في خارج البلاد السويسرية وقت إبرام هذه الاتفاقية.
أما المشرع الفرنسي  فقد أخذ في قانون الإجراءات المدنية الجديد بمفهوم متميز للصفة الدولية للتحكيم , يستند إلى الطبيعة الاقتصادية لموضوع النزاع المعروض على التحكيم , فوفقاً للمادة 1492 يعتبر التحكيم دولياً إذا كان يتعلق بمصالح التجارة الدولية , أي إذا كان يرتبط بحركة الأموال.
و من الواضح أن المشرع الفرنسي قد فضل الأخذ في تحديد الصفة الدولية للتحكيم بمعيار اقتصادي (موضوعي) , مستمد من طبيعة موضوع النزاع دون أن يكون للمعايير القانونية   ( الشكلية) المستمدة من العقد الأصلي , أو اتفاقية التحكيم مثل جنسية المتعاقدين أو موطنهم أو مقر التحكيم أو غير ذلك , أي اعتبار في تحديد هذه الصفة.
و لا بد من الإشارة في معرض حديثنا عن المفهوم الفرنسي للتحكيم الدولي إلى أن إعمال هذا المفهوم يرتبط ارتباطاً واسعاً بتحديد معنى مصالح التجارة الدولية, و بالتالي فإن هذه المصالح تتطلب معايير جديدة واضحة تحدد مضمونها.
و من الاتفاقيات التي تناولت التحكيم الدولي بالتنظيم نذكر الاتفاقية الأوربية(اتفاقية جنيف لعام 1961 ) إذ نصت المادة الأولى منها, المتعلقة بتحديد نطاق تطبيقها, و في الفقرة الأولى منها على ما يلي:" تطبق هذه الاتفاقية:
1- على اتفاقيات التحكيم المبرمة من أجل حل المنازعات الناجمة أو التي تنجم عن عمليات التجارة الدولية بين الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين الذين يكون سكنهم المعتاد أو مقرهم في دول مختلفة ( ضمن الدول المتعاقدة) وقت إبرام اتفاقية التحكيم."
و يتبين من ذلك أن هذه الاتفاقية قد أخذت بمعيار مزدوج لتحديد الصفة الدولية للتحكيم: المعيار الاقتصادي ( عمليات التجارة الدولية) و معيار مكاني ( مقر أطراف التحكيم        أو السكن المعتاد).
أما اتفاقية الأمم المتحدة المتضمنة القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي, فقد عرفت التحكيم الدولي في الفقرة الثالثة من مادتها الأولى كما يلي:" يعتبر التحكيم دولياً:
1-           إذا كانت إقامة أطراف اتفاقية التحكيم في دول مختلفة وقت إبرام هذه الاتفاقية, أو
2-           إذا كان أحد الأماكن المشار إليها فيما يلي موجوداً خارج الدول التي توجد فيها إقامة أطراف اتفاقية التحكيم: آ- مكان التحكيم إذا كان محدداً في اتفاقية التحكيم أو يمكن تحديده بموجب هذه الاتفاقية.
 ب- أي مكان يجب أن ينفذ فيه جزء جوهري من الالتزامات المتولدة عن العلاقة التجارية أو المكان الذي يرتبط به موضوع النزاع ارتباطاً وثيقاً.
3-           أو, إذا كان الخصوم قد اتفقوا صراحة على أن موضوع اتفاقية التحكيم يرتبط بأكثر من دولة."
يتضح من ذلك أن المعايير المعتمدة في القانون النموذجي, و التي يمكن أن تمنح التحكيم طابعه الدولي, قد تستمد إما من العقد الأصلي ( مكان تنفيذ الالتزام ) أو من اتفاقية التحكيم ( مكان إقامة الأطراف هذه الاتفاقية, مقر التحكيم ).
و مما تجدر الإشارة إليه أن هذا القانون النموذجي لا يطبق بحكم نص الفقرة الأولى من المادة الأولى إلا على التحكيم التجاري الدولي دون غيره, و هذا يعني أن التحكيم التجاري لا يعتبر دولياً بموجب أحكام هذا القانون إلا إذا توافرت فيه أحد المعايير المذكورة في الفقرة الثالثة من هذه المادة.
و بتقديرنا أن الصفة الدولية للتحكيم يمكن أن تبرز في عدة حالات: إما في تكوين العقد الأصلي ( الذي تولد عنه النزاع), أو في موضوع النزاع المعروض على التحكيم, أو في تنظيم التحكيم بحد ذاته. فبالنسبة إلى العقد , يكون التحكيم دولياً إذا كان العقد دولياً,          و بالنسبة إلى موضوع النزاع الناشئ عن العقد يكون التحكيم دولياً إذا كان موضوع النزاع يمس مصالح التجارة الدولية , أما بالنسبة إلى تنظيم عملية التحكيم , يمكن أن يكون التحكيم دولياً إذا كانت اتفاقية التحكيم تنطوي على عناصر من شأنها أن تجعل التحكيم متصلاً بأكثر من دولة.
فإذا أخذنا بالعناصر القانونية للعقد في تحديد الصفة الدولية للتحكيم, كان مفهوم هذه الصفة شكلياً, و إذا اعتبرنا الطبيعة الاقتصادية لموضوع النزاع دخلنا في المفهوم الاقتصادي للصفة الدولية للتحكيم, و إذا أخذنا بالعناصر التنظيمية في عملية التحكيم أصبح مفهوم هذه الصفة تنظيمياً.
غير أنه يمكن القول أن التمسك بالمعيار الاقتصادي الدولي في تحديد متى يكون التحكيم دولياً و يخضع بالتالي للقواعد الدولية , من شأنه أن يزعزع أساس فكرة القانون الدولي الخاص بصورته الحالية , الذي ينظم قواعد الإسناد , التي تدل على القانون الواجب التطبيق , على أساس ضوابط قانونية تنظيمية لا اقتصادية. فالتحكيم يخرج أصلاً من نطاق القانون الداخلي لا بفعل الطابع الاقتصادي الدولي لموضوع النزاع بحد ذاته , و لكن بحكم عناصر العقد أساساً و بمفعول اتفاقية التحكيم ظاهرياً, و ينتقل بالتالي موضوع النزاع المرتبط بهذا العقد إلى التحكيم الدولي على هذا الأساس.
و لولا الاتفاق على التحكيم لبقي النزاع ذو الطابع الاقتصادي الدولي خاضعاً, في حال عرضه أمام محاكم أحد الدول التي يتصل بها النزاع, للقواعد التي تحكم العقود الدولية, أي القواعد المتعلقة بتنازع القوانين.
إن اتفاقية التحكيم هي المصدر الذي يأتي منه التحكيم, و منها يستمد المحكم سلطاته, كما يستمد منها التحكيم ذاتيته و أبعاده, و على أساسها يتم فصل النزاع, لذلك لا يمكن تجاهل مضمون هذه الاتفاقية في تحديد الصفة الدولية للتحكيم. فالتحكيم وجد أصلاً من أجل العقد الذي نتج عنه النزاع و بموجب اتفاقية التحكيم التي هي صلة الوصل بينهما. فإذا كان العقد دولياً سواء بموضوعه أو بعناصره الأخرى فلا بد أن يكون التحكيم المتعلق به دولياً أيضاً , و تأتي اتفاقية التحكيم لتؤكد هذا الطابع. و بالتالي لا يمكن أن نتصور حالة أن يكون العقد دولياً و التحكيم في المنازعات الناشئة عن هذا العقد غير دولي.
و إذا كان الأمر يبدو واضحاً بالنسبة للعقد الدولي , فإنه ليس كذلك بالنسبة للتحكيم في عقد وطني اتفق أطرافه على إحالة النزاعات الناشئة عنه إلى مؤسسة تحكيمية دولية أو إلى محكم أجنبي عن هذه الدولة , و كان مقر التحكيم خارج هذه الدولة أيضاً. فهل يمكن في هذه الحالة أن يتحول العقد و بالتالي التحكيم الذي يقوم بشأنه إلى تحكيم دولي استناداً إلى عناصر اتفاقية التحكيم , أو استناداً إلى تنظيم عملية التحكيم؟
في القانون الفرنسي الذي يأخذ بالمعيار الاقتصادي الدولي لموضوع النزاع, لا يمكن أن يكون مثل هذا التحكيم دولياً.
أما وفقاً للقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي, فيمكن أن يكون هذا التحكيم دولياً     و لو تعلق بعقد وطني و ذلك استناداً إلى العناصر الخارجية التي تتضمنها اتفاقية التحكيم بالنسبة للعقد الأصلي.
و بتقديرنا , أنه إذا أخذنا اتفاقية التحكيم مع العقد الأصلي كعملية تعاقدية متكاملة , فلا بد أن يكون هذا التحكيم دولياً (من وجهة نظر تحكيمية), طالما أن عناصر هذه الاتفاقية        و عناصر العقد الذي وجدت لأجله تتصل بأكثر من دولة , أما من وجهة نظر القانون الوطني فيبقى هذا العقد وطنياً.
و نشير أخيراً إلى وجود اتجاه متزايد في الفقه يتحدث عن وجود تحكيم منفصل عن النظم الوطنية , و يخضع للقانون الدولي , يسمى بفوق الوطني , و عن تحكيم متميز عن التحكيم الوطني و التحكيم الدولي , يسمى عبر الوطني. و هذا الاتجاه يلتقي مع الاتجاه المؤيد لقيام قانونا خاصا بالتحكيم الدولي منفصلا عن قواعد القانون الدولي الخاص.
 
خصوصية(خصائص) التحكيم الدولي
يتمتع التحكيم الدولي بخصائص عديدة, أهمها:
1- استقلالية المحكم الدولي تجاه النظم الوطنية القانونية:
يتولى عملية التحكيم محكم أو أكثر يسمى مباشرة من قبل المتعاقدين أو من قبل مؤسسة تحكيمية دولية وفقاً لطرق مختلفة.و في التحكيم الدولي يختلف مركز المحكم و سلطاته و أسلوب عمله عن مركز القاضي أو المحكم الوطني و عن سلطته و أسلوب عمله. و من الأمور المسلم بها فقهاً و اجتهاداً أن المحكم الدولي يتمتع من حيث المبدأ باستقلالية تامة تجاه النظم القانونية الوطنية للمحكمين أو لأطراف النزاع أو غيرها من النظم القانونية سواء أكانت على صلة بعناصر عملية التحكيم أو بموضوعها أم لا , لأن المحكم ليس له انتماء"وظيفي" محدد إلى وحدة سياسية أو إقليمية معينة يمكن إلحاقه بها .
فالمحكم الدولي عندما يفصل في المنازعات ذات الطابع الدولي لا يمارس العدالة باسم الدولة التي ينتمي إليها , أو تلك التي صدر الحكم على أراضيها , و لا باسم الدولة التي ينتمي إليها المتعاقدون , فالمحكم الدولي ليس مثل القاضي الوطني حارساً لنظام قانوني وطني محدد.
فالمحكم ليس له قانون خاص به كما هو الحال بالنسبة للقاضي الوطني , و إذا كان المحكم ملزماً بتطبيق القانون الذي اختاره المتعاقدون , فإن ذلك لا يسمح بالقول مطلقاً أن إرادة المتعاقدين تصبح قانوناً وطنياً له , لأن هذه الإرادة لا تظهر غالباً , و إن ظهرت أحياناً فإنها تترك مكاناً واسعاً لإرادة المحكم و مفاهيمه الخاصة.
و مع التسليم بعدم وجود نظام قانوني وطني معين ينتمي إليه المحكم الدولي , يحاول قسم من الفقه السائد حالياً إيجاد انتماء دولي له و ذلك بإلحاقه بالجماعة الدولية, التي يسميها الفقه بالجماعة عبر الوطنية"Collectivité transnationale" المؤلفة من الأشخاص الاعتبارية للقانون العام و القانون الخاص و الأشخاص الطبيعيين الذين يكونون طرفاً في العلاقات الاقتصادية التي تتجاوز بعناصرها الدولة الواحدة.
2- استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي:
يتمتع اتفاق المتعاقدين, بموجب شرط التحكيم المدرج في العقد الأصلي على عرض أي نزاع ينشأ عن تنفيذ العقد على التحكيم , في نظر الاتفاقيات الدولية و التشريعات الوطنية              و الاجتهادات القضائية الحديثة باستقلالية تامة تجاه العقد الذي أدرج فيه شرط التحكيم أو الذي تولد منه النزاع الذي تم الاتفاق بشأنه بين الخصوم على عرضه للتحكيم . أي أنه إذا كان العقد الأصلي باطلاً فإن هذا البطلان لا ينسحب بأثره إلى شرط التحكيم فيبقى صحيحاً و لو كان العقد الأصلي باطلاً ما لم تكن اتفاقية التحكيم معيبة بحد ذاتها عيباً يترتب عليه بطلانها.
و يرى الأستاذ الفرنسي (كولدمان) أن استقلالية شرط التحكيم تشكل قاعدة مادية من قواعد القانون الدولي مستقلة عن أحكام القانون الواجب تطبيقه على العقد الأصلي و لا يستبعد اعتبارها واحدة من القواعد العرفية الدولية التي كرستها المحاكم الفرنسية .
و يترتب على استقلالية شرط التحكيم في التحكيم التجاري الدولي , خضوعه لقانون مختلف عن القانون الذي يحكم العقد الأصلي.
3- الطبيعة المزدوجة للتحكيم:
يوجد عدة اتجاهات تتكلم عن طبيعة التحكيم, الأول يرى في التحكيم مؤسسة ذات طبيعة تعاقدية, و أساس ذلك أن المحكمين يستمدون سلطاتهم من اتفاقية التحكيم أي من اتفاق الخصوم على إحالة النزاع على التحكيم و إن قرارهم ليس إلا نتيجة طبيعية لهذا الاتفاق. أما الاتجاه الثاني فيقول بالطبيعة الإجرائية للتحكيم بناء على أن مهمة المحكم تشبه مهمة القاضي و يخضع في ممارستها لإجراءات قضائية أو شبه قضائية , و أن قرار المحكمين ليس إلا حكماً صادراً وفقاً لإجراءات محددة , فلا يمكن بالتالي إنكار الصفة القضائية لهذا الحكم بشكل خاص         و لعملية التحكيم بشكل عام . أما الاتجاه الثالث فيرى في التحكيم مؤسسة ذات طبيعة مختلطة تعاقدية-إجرائية, و هذا هو الاتجاه السائد حالياً في الفقه. و في الواقع لا يمكن تغليب الطبيعة التعاقدية للتحكيم على الطبيعة الإجرائية أو العكس , فلا يمكن تجاهل أي من هاتين الطبيعتين في التحكيم و لا بد بالتالي من التعامل معه على أساس كونه ذو طبيعة خاصة مختلطة تعاقدية إجرائية في الوقت نفسه.
4- التحكيم هو الوسيلة الأكثر ملائمة في ميدان التجارة الدولية:
إن التحكيم, و بحكم مزاياه المتعددة, قد أصبح حالياً الوسيلة العادية لحل المنازعات التجارية الدولية. حتى أن بعض الفقهاء قال أنه من الصعب تصور قيام الحياة الاقتصادية الدولية من دون التحكيم. و بالتالي يمكن القول أن التحكيم التجاري الدولي يتمتع حالياً بقضاء خاص به هو التحكيم الدولي. و هذه الخصوصية تتطلب تعاوناً بين الدول من أجل ضمان فعالية التحكيم الدولي و المحافظة على أمن العلاقات التعاقدية الدولية و استقرارها, و يجب على المحاكم الوطنية المحافظة على الحد الأقصى من هذه الفعالية بتخفيض رقابتها على التحكيم الدولي إلى الحد الأدنى.
ميزات التحكيم التجاري الدولي:
1-        اختصار الوقت و تبسيط الإجراءات , و سرعة الفصل في النزاع.
2-        اختصار النفقات.
3-        السرية.
القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع في التحكيم الدولي
 
لا بد من القول بداية أن قانون العقد , أي القانون الذي يحكم موضوع النزاع , لا يندمج بقانون التحكيم فلكل من موضوع النزاع و اتفاقية التحكيم و التحكيم قانونه الخاص به ,     و هذا ناتج عن استقلالية اتفاقية التحكيم عن العقد الأصلي , و اختلاف الطبيعة القانونية لعملية التحكيم و عناصرها عن موضوع النزاع.
و لمشكلة القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع أهمية خاصة في مجال التحكيم الدولي , لأن المحكم الدولي لا يملك نظام قانوني محدد ينتمي إليه و يأتمر بأوامره, فما هي المبادئ أو القواعد التي يمكن أن يستند إليها لتحديد هذا القانون , و ما هي الطريقة للوصول إلى القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع ؟ و هل المحك الدولي ملزم باللجوء إلى الأسلوب التنازعي؟ و ما هو نظام القوانين الذي يمكن الرجوع إليه؟
تبرز أهمية هذه المشكلة عند غياب إرادة المتعاقدين في تحديد القانون الذي يحكم النزاع , و تبرز أيضاً في حال اتفاق الخصوم على اختيار قانون معين , لأن المحكمين يجب أن يتأكدوا من إمكانية قبول هذا الاختيار و فعاليته, و هل هو مقبول و منطقي , و هل يحتوي على غش أو تحايل على القانون.
و لا بد من مراقبة هذا الاختيار في أحكام قانون معين لتحيد مدى انسجامه مع قواعد هذا القانون و قيوده و مبادئه الأساسية.
الفصل الأول
قانون الإرادة:قانون موضوع النزاع
 
إن مبدأ سلطان الإرادة هو مبدأ عام معترف به في كل النظم الوطنية المتعلقة بالقانون الدولي الخاص, فهو مثل عرف دولي أو أحد المبادئ العامة للقانون, المعترف بها من قبل الأمم المتمدنة. و هذا المبدأ يظهر بشكل أكثر وضوحاً و فاعلية و تحرراً في التحكيم الدولي بالمقارنة مع القوانين الوضعية الداخلية .
ففي إطار التحكيم الدولي يتمتع الخصوم مثلاً : بحق اختيار عدة قوانين, سواء كانت على علاقة بعناصر العقد أم لا , باعتبارها تمثل نوعاً من الحياد بالنسبة لأطراف العقد , كما يمكنهم استبعاد أي قانون آخر , و الأهم من أنه يمكنهم التحرر من أي قانون وطني و الاتفاق على تطبيق مبادئ حسن النية أو العدالة أو المبادئ العامة للقانون.
و أهم ما يميز مركز قانون الإرادة في التحكيم الدولي أن هذا القانون يستمد سلطته مباشرة من مبدأ عام أو من عرف دولي مطبق عالمياً يعترف للمتعاقدين بحق اختيار القانون أو القواعد الواجب تطبيقها على عقودهم.
أولاً: في القوانين الوطنية الناظمة للتحكيم الدولي:
تقضي قواعد تنازع القوانين في معظم الدول بإخضاع العقود لقانون إرادة المتعاقدين ضمن شروط و قيود محددة و مختلفة باختلاف الدول. و لقد أكدت تشريعات الدول على سيادة مبدأ سلطان الإرادة في التحكيم الدولي و بأشكال مختلفة, كما اختلفت في تحديد الطريق الذي يجب على المحكم الدولي إتباعه للوصول إلى تعيينه.
 
1-             في القانون الفرنسي:Règle de droit
حدد المشرع الفرنسي القانون الواجب تطبيقه من قبل المحكم الدولي على موضوع النزاع في المادة "1496 فقرة أ" من قانون الإجراءات المدنية الجديد و التي نصت على ما يلي :
" يفصل المحكم في النزاع طبقاً للقواعد الحقوقية التي اختارها الخصوم, و في حال غياب مثل هذا الاختيار, طبقاً للقواعد التي يراها ملائمة. و في كل الأحوال يجب أن يأخذ بالاعتبار التعامل التجاري." و من الملاحظ هنا :
أولاً: أن المبدأ هو حرية المتعاقدين في تحيد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع.
ثانياً:أن المشرع الفرنسي منح الخصوم في المنازعات المعروضة على التحكيم الدولي حق اختيار القواعد الحقوقية "Règles de droit " الواجبة التطبيق و ليس القانون الواجب تطبيقه.
ثالثاً: إن تعبير "النزاع Le litige " يمكن أن يتسع ليشمل مسائل غير تعاقدية, مثل: الأهلية.
رابعاً: عند غياب إرادة الأطراف أو عدم اتفاقهم على قواعد قانونية محددة, لم يلزم المحكم باللجوء إلى أي نظام لتنازع القوانين , و لم يلزم بطريقة محددة لاستخلاص هذه القواعد , فالقانون ترك للمحكم حرية تحديدها وفق تقديره لمدى ملاءمتها للنزاع دون أن يكون ملزماً ببيان عناصر و شروط هذه الملائمة, و لعل هذه الملاحظة هي أهم ما جاء في هذه المادة.
و بذلك يكون المشرع الفرنسي قد ساير الاتجاهات التحكيمية الدولية المعاصرة التي تعتمد تنوع الطرق المستخدمة لاستخلاص القواعد الحقوقية المطبقة على موضوع النزاع.
 
2- في القانون الاتحادي السويسري:Règle de droit
بموجب المادة "187 فقرة 1 " من القانون الفدرالي السويسري الجديد بشأن القانون الدولي الخاص لعام 1987:" تفصل محكمة التحكيم وفق القواعد الحقوقية المختارة من قبل الأطراف أو, عند غياب هذا الاختيار, وفق القواعد الحقوقية الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع."
و بالمقارنة مع نص المادة 1496 فقرة أ , من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي نجد تشابهاً بينهما في المبدأ من حيث إعمال إرادة المتعاقدين و اختلافاً ظاهرياً في الحل التكميلي الواجب إتباعه عند غياب اتفاق أطراف النزاع بشأن القواعد الواجب تطبيقها على موضوع النزاع.
و بمقتضى أحكام القانون السويسري لا يتوجب على المحكم من أجل تحديد القواعد القانونية الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع استشارة قواعد الإسناد في القانون السويسري أو غيرها من نظم التنازع الأخرى , بل يستطيع أن يحدد القواعد الموضوعية بصورة مباشرة دون المرور بأي من هذه النظم . و إذا استعان بقواعد محددة للإسناد فيجب أن يؤدي تطبيق هذه القواعد إلى الأخذ بالقواعد الحقوقية الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع.

3-القانون الهولندي: Droit applicable
تنص المادة "1054 الفقرة الأولى " من القانون الهولندي للتحكيم على ما يلي:" تفصل محكمة التحكيم وفقاً للقواعد القانونية." و تنص الفقرة الثانية:" إذا اختار الخصوم قانوناً معيناً واجب التطبيق فإن محكمة التحكيم تفصل وفقاً إلى القواعد القانونية التي أخذ بها الخصوم و في حال غياب الاتفاق على القانون الواجب التطبيق فإن محكمة التحكيم تفصل طبقاً للقواعد الحقوقية التي تراها ملائمة في النزاع." أما الفقرة الرابعة فتوجب على المحكم أن يأخذ بالاعتبار في كل الحالات بالعادات التجارية الواجبة التطبيق.
و يستنتج من ذلك أن المشرع الهولندي قد أخذ من حيث المبدأ بإرادة المتعاقدين و بصورة تكميلية بالقواعد الحقوقية التي يراها المحكم ملائمة لحل النزاع, كما أخذ في الأحوال كافة بالعادات التجارية.

4- القانون السوري:
يمكن التمييز بين مرحلتين الأولى قبل صدور قانون التحكيم عام 2008 و الثانية بعد صدور هذا القانون.
- قبل 2008 : نص المشرع السوري على تحديد القانون الواجب التطبيق على العقد أمام القضاء في المادة 20 من القانون المدني السوري , التي أخذت بصورة أساسية بقانون الإرادة الصريحة أو الضمنية و بقانون الموطن المشترك في حال غياب هذه الإرادة أو قانون محل إبرام العقد عند اختلاف موطن المتعاقدين بصورة تكميلية, و لكنه لم يضع نصوصاً خاصة بالتحكيم الدولي تبين القانون الواجب تطبيقه لا على التحكيم بحد ذاته أو على موضوع النزاع.

و بالرجوع إلى بعض القوانين التي تم بموجبها تصديق العقود التي أبرمتها الحكومة السورية مع بعض الشركات البترولية الأجنبية , نجد أن المشرع قد تأثر ضمناً بقواعد التحكيم الدولي في بعض الدول و الاجتهادات المعاصرة التي تقضي بإمكانية إخضاع العقد الدولي لقواعد غير وطنية أي لقواعد غير مستمدة من قانون دولة معينة .
و بالنظر إلى هذه العقود نجد أن القواعد الواجبة التطبيق على المنازعات الناجمة عن هذه العقود , عند عرضها على التحكيم , هي القواعد المشتركة في القوانين الوطنية للأطراف الموقعة على هذه العقود و المبادئ العامة المتعارف عليها بين الشعوب المتمدنة بما في ذلك اجتهادات المحاكم الدولية.
- بعد صدور قانون التحكيم الجديد: في عام 2008 صدر قانون التحكيم مسجلاً بذلك انفصاله عن قانون الأصول الذي كان يتضمن فصلاً خاصاً بالتحكيم الداخلي دون الدولي.
تنص المادة 38 من قانون التحكيم على ما يلي:
"1- تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد التي اتفق عليها الطرفان, و إذا اتفقا على تطبيق قانون معين اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين, ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك.
2- إذا لم يتفق الطرفان على القواعد القانونية الواجبة التطبيق على موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في القانون الذي ترى أنه الأكثر اتصالاً بموضوع النزاع.
3- على هيئة التحكيم أن تراعي عند الفصل في النزاع شروط العقد موضوع النزاع          و الأعراف الجارية بشأنه.
4- إذا اتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويض هيئة التحكيم بالصلح جاز لها أن تفصل النزاع على مقتضى قواعد العدالة و الإنصاف دون التقيد بأحكام القانون."

ثانياً- في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم الدولي:
كثيرة هي الاتفاقيات الدولية لا سيما الجماعية منها التي اهتمت بمسألة التحكيم الدولي و تنفيذ أحكام المحكمين , إلا أنها قليلة تلك الاتفاقيات التي تصدت لمسألة القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع , و من أهم هذه الاتفاقيات:
1- الاتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي المعروف باتفاقية جنيف لعام 1961 , و التي تنص المادة السابعة منها على :" الأطراف أحرار في تحديد القانون الذي يتوجب على المحكمين تطبيقه على موضوع النزاع , إذا لم يذكر المتعاقدون ما يدل على القانون الواجب تطبيقه يطبق المحكمون القانون الذي تعينه قاعدة الإسناد التي يرى المحكمون ملاءمتها للقضية و في الحالتين يراعي المحكمون شروط العقد و عادات التجارة."
2- اتفاقية تسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات بين الدول و رعايا الدول الأخرى , المعروف باتفاقية واشنطن لعام 1966 , التي تنص في المادة 42 على:" تفصل المحكمة       ( محكمة التحكيم) في النزاع طبقاً للقواعد القانونية التي اتفق عليها الأطراف , و في حال عدم وجود اتفاق بينهم تطبق المحكمة قانون الدولة المتعاقدة الطرف في النزاع بما فيه من القواعد المتعلقة بتنازع القوانين و كذلك مبادئ القانون الدولي في الموضوع."
3- الاتفاقية العربية للتحكيم التجاري الدولي, و التي تنص في المادة 19 على:"تفصل الهيئة في النزاع وفقاً للقانون الذي اختاره الأطراف, و في حال عدم وجود نص في اتفاقية التحكيم يفيد ذلك تطبق الهيئة قانون الدولة التي يجري التحكيم في إقليمها."
 
الفصل الثاني
دور المحكم في تحديد القواعد المطبقة على موضوع النزاع عند غياب اتفاق أطراف النزاع

إن المشكلة المطروحة هنا هي خاصة بالمحكم الدولي الذي يتولى الفصل في منازعات التجارة الدولية, و إن الأوضاع التشريعية الوطنية و الاتفاقيات الدولية تبين لنا وجود تباين في تحديد الدور المرسوم للمحكم في تحديد القواعد القانونية التي تطبق على موضوع النزاع عند غياب اتفاق الأطراف على تحديد أو اختيار هذا القانون . و من أجل بيان ذلك لا بد من التمييز بين موقف الاتفاقيات الدولية و موقف التشريعات الوطنية من هذه المسألة:
أ- إذا كانت جميع الاتفاقيات الدولية تتفق على الأخذ بقانون الإرادة كقاعدة عامة في تحديد القانون الذي يحكم موضوع النزاع في التحكيم الدولي , إلا أنها تختلف فيما بينها في تحديد القانون الواجب تطبيقه عند عدم اتفاق أطراف العقد على قانون معين , و يمكن أن نميز في هذا الموضوع عدة اتجاهات:
1- تطبيق القانون الذي تعينه قاعدة الإسناد الواجبة التطبيق(القانون النموذجي).
2- تطبيق القانون الذي تعينه قاعدة الإسناد الملائمة ( اتفاقية جنيف).
3- تطبيق قانون الدولة التي هي طرف في النزاع بما في ذلك قواعد الإسناد في هذا القانون.
4- تطبيق قانون الدولة التي يجري التحكيم على إقليمها ( الاتفاقية العربية للتحكيم).
5- تطبيق مبادئ القانون الدولي (اتفاقيات الاستثمار).
6- تطبيق شروط العقد و عادات التجارة أو التعامل التجاري.
و يتبين من ذلك أن الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتحكيم التجاري الدولي قد اتخذت موقفاً سلبياً من مشاركة المحكم في تحديد قانون موضوع النزاع, فهي جميعها قد ألزمته بسلوك طرق محددة , و هذا الموقف الدولي يعبر بشكل واضح عن التزام هذه الاتفاقيات بالأسلوب التنازعي القائم على أساس الرجوع إلى نظام وطني محدد لتنازع القوانين من أجل تحديد القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع.
- و هذا التوجه يتعارض مع اتجاه آخر يسود ميدان التحكيم الدولي ينادي باستقلالية المحكم الدولي تجاه نظم تنازع القوانين الوطنية المختلفة.

ب- أما التشريعات الوطنية , فهي على العكس تماماً , تظهر موقفاً إيجابياً من دور المحكم في تحديد قانون موضوع النزاع, فعند غياب اتفاق الأطراف على قانون معين لحكم النزاع, تركت معظم هذه التشريعات للمحكم الدولي تطبيق القانون أو القواعد الحقوقية التي يراها ملائمة       ( القانون الفرنسي و الهولندي) أو الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع ( القانون السويسري         و السوري) أو التي يراها مناسبة( القانون التونسي).
ج- و يجب أن نذكر أيضاً أن المحكم يمارس سلطته و تقديره في تحديد القواعد الواجب تطبيقها على موضوع النزاع بعيداً عن نظم تنازع القوانين الوطنية, حتى في حالة اتفاق الأطراف على تطبيق قواعد قانونية لا تنتمي إلى قانون دولة معينة.
و لتوضيح ذلك سنميز بين اتجاهين:
- الأول: يحرص على أن يكون يختار أطراف النزاع لقانون دولة معينة من بين الدول ذات الصلة بموضوع النزاع, و هو ما يسمى ب La loi applicable.
- الثاني: يسمح لأطراف النزاع الاتفاق على تطبيق قواعد حقوقية أو قانونية تستمد وجودها من مصادر ليست بالضرورة من صنع مشرع وطني في دولة محددة, و هذا ما يسمى              ب Droit applicable   أو Règles de droit.
و من المعلوم أن أحكام القانون الوطنية يمكن أن تكون ( على سبيل المثال):
- أحكام القانون الخاص في دولة معينة . أو
- أحكام اتفاقية دولية أو معاهدة دولية سارية المفعول في هذه الدولة.
أما القواعد القانونية فهي ذات مفهوم أعم و أشمل, و هذه القواعد تتعدد مصادرها و تتنوع مثل:
- قواعد خاصة و محددة نتيجة تعامل تجاري معين. أو
- شروط تعاقدية معينة. أو
- عقود نموذجية في مجال تجاري معين أو قواعد موضوعية موحدة من صنع منظمات دولية.
و بالعودة إلى دور المحكم في تحديد القواعد القانونية التي تحكم موضوع النزاع, فإن المحكم الدولي يجد في تحديد هذه القواعد و تطبيقها و تفسيرها الاستقلالية التي يريدها.
الفصل الثالث
القانون الواجب التطبيق على اتفاقية التحكيم
 
نقصد باتفاقية التحكيم تلك التي يمكن أن ترد بشكل مستقل بعد نشوء المنازعة , أو التي يمكن أن ترد في العقد على شكل أحد بنوده , أو التي توضع لمواجهة حل المنازعات المحتملة الحدوث مستقبلاً في جميع المسائل المتعلقة بتعاملات الطرفين أو بعضها.
و يجب علينا أن نبحث في المواضيع المرتبطة باتفاقية التحكيم و خاصة ما يتعلق بصحة هذه الاتفاقية, و بناء عليه تبرز مشكلة القانون الذي يجب بمقتضاه أن تحل مثل هذه المسألة.
فإذا اعتبرنا أن شرط التحكيم هو جزء من العقد الذي حدثت بشأنه المنازعة فإن مشكلة القانون الواجب تطبيقه على الاتفاقية لا تبرز , طالما أن جميع المسائل المتعلقة باتفاقية التحكيم سيتم حلها استناداً إلى القانون الذي ينظم العقد نفسه , لكن يسود في فقه القانون الدولي الخاص و في التطبيق القضائي رأي بمقتضاه تعتبر اتفاقية التحكيم مستقلة عن العقد..
و بما أن شرط التحكيم هو اتفاق ذو طبيعة مستقلة عن العقد الأصلي , فيجب عند النظر في مسألة شرط التحكيم الاعتراف بمبدأ سلطان الإرادة , و هو المبدأ الذي يعتبر نقطة الانطلاق في حل مسائل التنازع في القضايا المتضمنة عنصراً أجنبياً , أي أنه يحق للأطراف أن يخضعوا اتفاقية التحكيم للقانون الذي يختارونه , و بناء عليه فالقانون الذي يحكم شرط التحكيم يمكن أن لا يتطابق مع القانون الذي ينظم العقد الأصلي.
و عند تحديد القانون الذي يحكم اتفاقية التحكيم كثيراً ما يطبق في البلدان الغربية قاعدة الإسناد إلى قانون محل التحكيم , و يقترح الأستاذ"سوزارهال" إقامة قاعدة إسناد أساسية و هو الأمر الذي يمكن من تحديد القانون الذي يخضع له التحكيم من حيث المبدأ , و هو يشير إلى قانون محل إجراء التحكيم باعتباره القانون الذي ينظم جميع المسائل المتعلقة باتفاقية التحكيم.
و في محاولة لوضع منهج موحد في مجال التطبيق, فإن اتفاقيتي نيويورك لعام 1958       و جنيف لعام 1961 قد نصتا على إعمال قواعد إسناد محددة ,فنصت اتفاقية نيويورك على أنه في حالة غياب إشارة الأطراف إلى القانون الذي تخضع له اتفاقيتهم بشأن التحكيم , يطبق قانون البلد الذي يصدر فيه حكم التحكيم " المادة الخامسة الفقرة أ " , و في اتفاقية جنيف تم الإشارة إلى أنه عند اتخاذ قرار بشأن وجود أو صحة اتفاقية التحكيم يجب الاستعانة- عند عدم اتفاق  الأطراف – بقانون البلد الذي يجب أن يصدر فيه حكم التحكيم "مادة 6 فقرة 2ب".
و على أية حال فإنه عند حل مشكلة القانون الواجب التطبيق على اتفاقية التحكيم , يجب الأخذ بالحسبان الطبيعة القانونية لهذه الاتفاقية و التي تكيف من وجهة نظر القانون المادي كعقد من عقود القانون المدني , و من وجهة نظر قانون المرافعات المدنية كتصرف موجهاً لإعمال واحدة من طرق الإجراءات المسموح بها قانونياً للنظر في نزاعات القانون المدني               " أثر إيجابي" و إخراج هذه النزاعات من دائرة اختصاص المحكمة العادية"أثر سلبي" .
و بما أنه يجب النظر إلى اتفاقية التحكيم من ناحيتين , فيجب لحل المسألة تكييف العنصر الذي يتعلق به الحل باعتباره ضمن إطار القانون المادي, أو القانون الإجرائي , فإذا كان العنصر ينتمي إلى القانون المادي , فيجب أن تحل المسألة طبقاً للقواعد التي تُحل بموجبها قضايا العقود المدنية أي بالسماح بتطبيق قانون أجنبي.أما في الحالة الثانية فيتم حل المشكلة على أساس قانون المحكمة لأن سلطان الإرادة غير مقبول في القضايا الإجرائية من حيث المبدأ. 
و بناء عليه فإن مسألة حقوق و أهلية الأطراف لإبرام اتفاقية التحكيم و شكل هذه الاتفاقية     و نطاق العقود التي تسري عليها تكيف عادة باعتبارها من مسائل القانون المادي و يجب حلها على مقتضى الأسس العامة لتنازع القوانين, مع الإحالة عند اللزوم إلى القانون الأجنبي. أما فيما يتعلق بإجازة اتفاقية التحكيم كأساس لإخراج القضية من اختصاص المحكمة العادية فهو باعتباره مسألة إجرائية يجب أن يحل استثناءاً وفقاً لقانون البلد الذي يجري فيه النظر في الدعوى. لكن بعض الفقه و القضاء يرى أن إعمال القانون الأجنبي جائز حتى في هذه الحالة.
و وفقاً لاتفاقيتي نيويورك و جنيف المذكورتين سابقاً يمكن تطبيق القانون الأجنبي عند النظر في وجود أو صحة اتفاقية التحكيم فقط في حالة تعلق نفاذ الاتفاقية في الفصل في المسائل ذات الطابع القانوني المادي.
و سنبحث فيما يلي فيما يتعلق بمعالجة شكل اتفاقية التحكيم , و أهلية الأطراف لعقد الاتفاقية.
1- شكل اتفاقية التحكيم: غالباً لحل هذه المشكلة يتم اللجوء إلى قاعدة الإسناد في قانون محل إبرام العقد ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك, و لكن هذه القاعدة تواجه صعوبات بسبب عدم وجود مفهوم موحد لهذا المصطلح , فالقانون الانجلوسكسوني يستند إلى فكرة صندوق البريد عند إبرام العقد في غياب الأطراف و طبقاً لهذه الفكرة فإن الاتفاقية تعتبر قد انعقدت في لحظة  و مكان إرسال القبول , أما في بلدان غرب القارة الأوربية فتعتبر الاتفاقية في مثل هذه الحالة قد أبرمت في لحظة و مكان استلام الموجب للقبول.
- و في التشريع الإيطالي يوجد نص يعتبر شرط التحكيم المقترح من أحد الأطراف غير صحيح قانوناً إذا لم يقبل به الطرفان كتابة " بصفة خاصة و مستقلة" ( المادتان 1341, 1342 من قانون المرافعات الإيطالية). و كما يقول الفقيه الإيطالي"براتشي" فإنه قد سادت في الماضي فكرة أن شرط التحكيم المرتبط بالتحكيم الأجنبي يجب أن يكون مقبولاً بشكل خاص و كتابة في الحالة التي يكون فيها هذا الشرط مدرجاً في الشروط العامة للعقد , مع الأخذ بالحسبان أنه في حال غياب مثل هذا القبول فإن شرط التحكيم يكون باطلاً.
2- فيما يتعلق بحقوق و أهلية الأطراف لعقد اتفاقية التحكيم: إن هذا الموضوع لا يدخل في سريان مبدأ سلطان الإرادة و لكن يتم حله طبقاً للقانون الشخصي للأطراف , و مع هذا فيوجد تراجع عن هذه القاعدة في بعض البلدان , و يذهب الأستاذ "بيسار" إلى القول بأن:" أهلية الأشخاص في بلدان القارة الأوربية في تحمل الالتزامات على عاتقها ينظمها, بصفة أساسية, قانونهم الشخصي أي قانون الجنسية أو قانون الموطن." و في انجلترا تستخدم الإحالة إلى قانون الموطن و قانون محل إبرام العقد و إلى القانون الذي يحكم العقد.
و قد عالجت اتفاقية نيويورك هذا الموضوع فهي تنص على تحديد أهلية الأطراف في الاتفاقية طبقاً للقانون الذي يطبق عليها " مادة 5 فقرة أ" و في الاتفاقية الأوربية لعام 1961 بأنه إذا تعلقت المسألة بالأهلية القانونية للأطراف فيجب الاستدلال بالقانون الذي يطبق عليهم   " مادة 6 فقرة 2 ".
- لكن يمكن أن تقوم صعوبات تتعلق بتحديد جنسية الخص الاعتباري الذي يدخل كطرف في اتفاقية التحكيم , و يوجد آراء مختلفة لحل هذه المشكلة , ففي القضاء الانجلوسكسوني يتم حل المشكلة عن طريق قانون محل تأسيس الشخص الاعتباري , و في بعض بلدان القارة الأوربية " دول القانون اللاتيني " فقد تم اللجوء إلى معيار " مقر " الشخص الاعتباري , و الذي يحدد تبعاً لمكان وجود مركز الإدارة الرئيسي , و المقصود بمركز الإدارة الرئيسي " المكان الذي يتركز فيه النشاط التوجيهي للشخص الاعتباري , و هو عادة المكان الذي يجتمع فيه مجلس الإدارة و الجمعية العامة, و فيه توجد مكاتب الإدارة." , و من جهة أخرى , في بعض البلدان النامية عند تحديد التبعية القانونية للشخص الاعتباري أو جنسيته , يتم الأخذ بعين الاعتبار بمحل الممارسة الفعلية من طرف هذا الشخص لنشاطه.
- كما أنه في التطبيق العملي تظهر مشكلة تمتع الشخص الذي وقع اتفاقية التحكيم بالصلاحية الكافية للقيام بمثل هذا التصرف, ففي دعوى عرضت على التحكيم اليوغسلافي , أعلنت محكمة التحكيم أن هذه القضية يجب أن تُحل بمقتضى قانون بلد الموكل و الذي يجب طبقاً له الاعتراف بأن حجج المدعى عليه الذي يستند إلى عدم صحة شرط التحكيم كأساس لرفض إجراء التحكيم هي حجج مقبولة.
- و فيما يتعلق بمسألة إجازة اتفاقية التحكيم , يوجد في القضاء أحكاماً تؤكد عدم جواز تطبيق القانون الأجنبي عند النظر في هذه المسألة , فمثلاً المحكمة العليا الكندية في إحدى القضايا , اعتبرت إجازة اتفاقية التحكيم هي مسألة إجراءات , و طبقت قانونها " أي قانون المحكمة العليا  الكندية" . و في فرنسا , رفضت إحدى المحاكم إعطاء أمر التنفيذ لحكم تحكيمي انجليزي في نزاع بين شركة دانمركية و أخرى فرنسية بشأن تعويض الخسائر التي سببها عدم الوفاء بالالتزام بتوريد بضائع . و قررت المحكمة أن المدعى عليه "الشركة الفرنسية" لم ينفذ التزامه التعاقدي نظراً للحظر المفروض من قبل السلطات الفرنسية على توريد الدفعة المعينة من البضائع , و على هذا فالنزاع قد مس النظام العام و بالتالي لم يكن وفقاً للقانون الفرنسي محلاً لنظر التحكيم.


و في النهاية يمكن القول أن حرص أطراف التجارة الدولية في اللجوء إلى التحكيم كوسيلة لحل المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ بينهم مستقبلاً يرجع إلى أن التحكيم يحرر المحكم عادة , و خلافاً للقاضي العادي, من القيود المفروضة من القوانين الوطنية المختلفة و التي قد لا تتوافق و طبيعة التجارة الدولية , فالمحكم يستطيع وفقاً لإرادة الأطراف الصريحة أو الضمنية أن يطبق,  على ما يطرح أمامه من منازعات , القواعد الموضوعية التي يتبعها أطراف التجارة الدولية.
و عند غياب إرادة الأطراف يستطيع المحكم إما إعمال القواعد العرفية التي تتضمنها العقود النموذجية , و التي لا ترتبط شروطها العامة بقانون دولة معينة , أو القواعد الدولية الخاصة بتفسير مصطلحات التجارة الدولية و المعروفة باسم الإنكوتيرمز "Incoterms " الصادرة عن غرفة التجارة الدولية بباريس , أو غيرها من القواعد.
 
 
الفصل الرابع
نظم تنازع القوانين في مجال التحكيم الدولي
 
يجب علينا أن نميز بين نوعين من النظم المحتمل تدخلها في التحكيم التجاري الدولي و هي النظم النظرية و النظم العملية المتداولة.
أولاً: النظم النظرية:
1-    نظام تنازع القوانين في القانون الوطني للمحكم:
نادى قلة من الفقهاء بضرورة رجوع المحكم إلى نظام تنازع القوانين في قانونه الوطني     أو في قانون موطنه و ذلك لتحديد القانون الواجب تطبيقه على موضوع النزاع عند سكوت المتعاقدين أو عدم اتفاقهم بشأن هذا القانون.
الأساس القانوني لهذا الرأي: يقوم هذا الاتجاه على أساس أن المحكم يعرف قانونه الوطني   و نظام تنازع القوانين فيه أفضل من النظم القانونية الأخرى , و أن اتفاق الأطراف و اختيارهم لمحكم معين يمكن أن يعتبر اختياراً ضمنياً لنظام تنازع القوانين في قانونه الوطني أو على الأقل قبولاً بهذا النظام.
2-    نظام تنازع القوانين في القانون الوطني المشترك للمتعاقدين أو في قانونهما الوطني المشترك:
وفقاً لهذا الاتجاه يجب على المحكمين اللجوء إلى نظام تنازع القوانين في القانون الوطني المشترك للمتعاقدين إذا كانا من جنسية مشتركة, أما إذا كانا من جنسيتين مختلفتين فيجب اللجوء إلى قواعد تنازع القوانين في قانون الموطن المشترك لهما.
الأساس القانوني: إن نظام تنازع القوانين في القانون الوطني المشترك للمتعاقدين هو النظام الأكثر صلة و ارتباطاً بشخص المتعاقدين و بالنزاع المعروض على التحكيم, بالإضافة إلى أهمية الموطن في تعامل الأفراد من الناحية القانونية و الواقعية.
3-    نظام تنازع القوانين في نظام المحكمة المختصة أصلاً بالفصل في النزاع:
يجب على المحكم اللجوء إلى نظام تنازع القوانين في قانون المحكمة المختصة أصلاً بالفصل في النزاع.
الأساس القانوني:العودة للأصل لو لم يكن النزاع معروضاً على التحكيم و الأصل هو القضاء.
4-    نظام تنازع القوانين في بلد تنفيذ حكم المحكمين:
يجب اللجوء لقواعد تنازع القوانين في الدولة التي يكون من المحتمل أن يطلب إلى محاكمها تنفيذ حكم المحكمين الفاصل في موضوع النزاع.
الأساس القانوني: على المحكم الدولي أن يوفر أقصى قدر ممكن من الفعالية لقراره على الصعيد الدولي, و تسهيل شروط تنفيذ هذا القرار, و هذا لا يتحقق إلا عند مراعاة قواعد القانون الدولي الخاص و قواعد النظام العام في بلد أو بلدان التنفيذ.
5-    نظام تنازع القوانين الذي يتفق عليه أطراف النزاع:
الأساس القانوني: الطبيعة التعاقدية للتحكيم, فكما يحق للمتعاقدين اختيار القانون المادي الواجب تطبيقه على موضوع النزاع بصورة مباشرة, فلا يوجد ما يمنع من الاتفاق على تحديده بصورة غير مباشرة عن طريق تحديد قواعد الإسناد أو نظام تنازع القوانين في دولة معينة.
ثانياً: النظم العملية المتداولة:
1-        نظام تنازع القوانين في قانون العقد:
أي الرجوع إلى القانون الذي تم اختياره من قبل المتعاقدين لحكم العقد المبرم بينهما و هذا ما يسمى " قانون الإرادة".
الأساس القانوني: إن اختيار المتعاقدين لقانون دولة معينة يعني تركيز العقد في هذه الدولة    " و هذا ما نسميه بالتركيز المكاني الموضوعي " أكثر منه كاختيار ذاتي لقانون معين " و هذا ما نسميه الخيار الذاتي", و إن المحكم لا يطبق على موضوع النزاع فقط القواعد المادية      في قانون البلد الذي اختاره المتعاقدين كمقر مكاني لعلاقتهما التعاقدية و إنما يطبق - عند الحاجة – قواعد تنازع القوانين في هذا القانون .
2- نظام تنازع القوانين في مقر التحكيم:  
على المحكم الدولي أن يستشير من أجل تحديد القانون الواجب تطبيقه على النزاع قواعد تنازع القوانين في قانون دولة مقر التحكيم. و من أنصار هذا الاتجاه الفقيه الهولندي             " سوزرهال" الذي يرى في التحكيم مؤسسة مختلطة , تعاقدية بمصدرها إجرائية بمضمونها.
الأساس القانوني: بما أن الأمر يتعلق بمؤسسة تعاقدية , فيجب الاعتراف للمتعاقدين بسلطة تحديد القانون الذي يجب على المحكم تطبيقه على النزاع , لكن المتعاقدين لا يستطيعون ممارسة هذه السلطة إلا ضمن الحدود التي تسمح بها قاعدة الإسناد في قانون مقر التحكيم, الذي يحدد مدى سلطة إرادة المتعاقدين في تحديد هذا القانون و ذلك لكونه الإطار القانوني للمحكم , فإذا لم يتفق المتعاقدان على تحديد القانون ,وجب على المحكم تطبيق قواعد الإسناد في قانون مقر التحكيم لحل مشكلة تنازع القوانين . و ما يميز هذا الحل هو بساطته و سهولته.
3- استقلالية المحكم الدولي بالنسبة إلى نظم تنازع القوانين الوطنية:
يرى الاتجاه الفقهي السائد حالياً أن المحكم الدولي ليس ملزماً من أجل تحديد القانون الواجب تطبيقه على العقد أو عند مراقبته لاختيار المتعاقدين لهذا القانون إتباع قواعد الإسناد في قانون دولة العقد أو في قانون العقد أو غيره , ما لم يكن في العقد ما يدل على عكس ذلك.
و يعبر الأستاذ الفرنسي " هنري باتيفول " عن ذلك بقوله:" إن المحكم الدولي ليس ملزماً بإتباع قواعد الإسناد في بلد معين دون غيره."
الأساس القانوني : في التشريعات الوطنية و الاتفاقيات الدولية و حتى عند اتفاق أطراف العقد على إحالة النزاع للتحكيم , يترك للمحكم - سواء بصورة صريحة أو ضمنية – الحرية باختيار القانون الواجب تطبيقه على العقد, سواء باللجوء إلى قواعد إسنادية تنظيمية يختارها المحكم لهذا الغرض أو بصورة مباشرة دون المرور بهذه القواعد, فالمحكم الدولي يجد نفسه في معظم الحالات يملك حرية مطلقة في اختيار قواعد الإسناد الواجب تطبيقها مع قيود محددة تفرضها القواعد الآمرة في القانون الدولي الخاص للدول ذات العلاقة أو للقوانين ذات العلاقة ,         إن وجدت هذه القواعد.


- مدى الحرية التي يتمتع بها المحكم: و يؤكد المشتغلون بالتحكيم الدولي أن المحكمين يتمتعون بحرية واسعة بالنسبة لقواعد القانون الدولي الخاص عند غياب ما يشير إلى توافق إرادة المتعاقدين أو عند عدم الإحالة إلى نظام تحكيمي لإحدى مؤسسات التحكيم الدولية ,       و لكنهم يعترفون في الوقت نفسه و بالاستناد إلى القرارات التحكيمية المنشورة بتنوع الطرق المستخدمة من قبل المحكين لحل موضوع النزاع , و هذه الطرق هي :
أ- اللجوء إلى التطبيق الجامع لقواعد الإسناد في الدول ذات العلاقة بموضوع النزاع.
ب- اللجوء إلى الطريق المباشر أي دون المرور بقواعد الإسناد.
ج- اللجوء إلى المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص.
أ- طريقة التطبيق الجامع: 
و هي أن يلجأ المحكم إلى فحص كل قاعدة من قواعد الإسناد في النظم القانونية الوطنية ذات العلاقة بموضوع النزاع المعروض عليه , فإذا لاحظ خلال ذلك أن هذه القواعد متقاربة و تؤدي إلى تطبيق قانون داخلي وحيد فإنه يلجأ إلى إعلان هذا القانون مختصاً بحكم النزاع.
و هذا الأسلوب في العمل يؤدي في نظر بعض المحكمين إلى ما يسمى بقاعدة الإسناد الأكثر ملائمة أو إلى القانون الذي يكون معترفاً باختصاصه دولياً.
كما أن هذا الأسلوب يؤدي إلى نتيجة هامة جداً وهي وحدة قواعد الإسناد في النتيجة و ليس في الموضوع عن طريق استنتاج قانون معين مقبول من قيل هذه الأنظمة , و يؤدي  إلى حل معترف به من الدول ذات العلاقة , و هذه الفكرة تنسجم مع مستلزمات التحكيم الدولي التي تتطلب أن يكون حل مشكلة القانون الواجب تطبيقه حلاً دولياً لا وطنياً. و إن كانت صفته الدولية في هذه الحالة محدودة جغرافياً أو ضيقة.

ب- اللجوء إلى الطريق المباشر دون المرور بقواعد الإسناد: 
المحكم بهذه الطريقة يتجه مباشرة إلى حل النزاع المعروض على التحكيم دون الوقوف على مشكلة تنازع القوانين. و يتم ذلك بطريقتين: إما بتحديد القانون الواجب تطبيقه مباشرة, و ذلك بعد تحديد الظروف القانونية و وقائع القضية ( العناصر القانونية و الموضوعية), باعتباره القانون الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع. أو دون الإشارة إلى القانون الواجب تطبيقه و ذلك عن طريق تفسير بنود العقد, و النظر إلى هذا العقد بصورة مستقلة عن أي اعتبار آخر, أو بتفسيره وفقاً للمبادئ العامة و التعامل التجاري بعيداً عن أي من النظم القانونية الوطنية.
ج- تطبيق القواعد العامة للقانون الدولي الخاص:
ينطلق هذا الأسلوب من أن حرية المحكم في تحديد نظام تنازع القوانين, تسمح له باللجوء إلى مبادئ القانون الدولي الخاص لتحديد القانون الواجب التطبيق. و المشكلة هي : كيف نعرف القواعد العامة للقانون الدولي الخاص؟
من الصعب الاتفاق على تعريف جامع لهذه القواعد , و لكن يمكن بشكل عام تعريفها على أنها تلك القواعد المتعلقة بتنازع القوانين الأكثر شيوعاً في العالم , و هذا ما ذهبت إليه القرارات التحكيمية الصادرة عن غرفة التجارة الدولية بباريس.
- أهمية حرية المحكم: إن التحكيم في مسائل القانون الخاص يشهد تأكيداً متزايداً على حرية المحكمين الدوليين في ما يتعلق بتحديد القواعد أو القانون الواجب تطبيقه على النزاع عند عدم اتفاق الأطراف بشأن تحديد القواعد أو القانون الذي يتوجب على المحكم إعماله عند الفصل في النزاع, و هذه الحرية أتاحت للمحكمين عند عدم وجود قواعد ملزمة لهم أن يستعملوا آراءهم   و أفكارهم القانونية في معالجة منازعات الأفراد التجارية الدولية من خلال نظم تنازع القوانين المختلفة , مما أدى إلى تنوع القواعد و الأساليب التي تقوم عليها هذه المعالجة , و يمكن أن نميز في هذه القواعد و الأساليب بين ما هو عام يطبق أمام المحاكم الوطنية أو أمام هيئات التحكيم , و بين ما هو خاص بالتحكيم الدولي , و بين ما هو مستمد من نظم تنازع القوانين ,   و بين ما هو معمول به من خارج هذه النظم.
أما خصوصية القواعد المطبقة في التحكيم التجاري الدولي فتظهر بأن مصادر القواعد المادية منها دولية لا وطنية, و بمبدأ حرية المحكم في تحديد قانون النزاع دون أن يكون ملزماً باستخدام قواعد الإسناد في قانون وطني معين.
يتنامى حالياً تيار فقهي ينادي بوجود قواعد مستقلة خاصة بالتحكيم التجاري الدولي , و يطلق على هذه القواعد اسم "Lex mercatoria " و يمكن أن نجد مصادر هذه القواعد في:
1-    الشروط الخاصة التي يمكن أن يتفق بشأنها الأفراد و تدرج في عقودهم. أو
2-    في العقود النموذجية التي وضعتها بعض الهيئات المهنية الدولية. أو
3-    في القواعد المشتركة بين الأمم , و من ضمنها قواعد العدالة و النية الحسنة. أو
4-    في العادات و الأعراف التجارية. أو
5-    في الاتفاقيات الدولية الخاصة بالعلاقات الاقتصادية الدولية.
و هذه القواعد ليست مستمدة من سلطة أي دولة .
- و من باب تبرير هجر القانون الدولي الخاص و الدعوة لإيجاد قانون مستقل خاص بالتحكيم التجاري الدولي , يرى أنصار هذا القانون الأخير أنه ليس هناك قانون وطني له الحق دون غيره بالانفراد في حكم العلاقات التي تتصل بعلاقات الأفراد ذات الطابع الدولي , و إن تعدد أنظمة تنازع القوانين بتعدد الدول لا يلبي مصلحة التجارة الدولية و متطلباتها , كما أنه لا يلاءم الطبيعة الدولية للمنازعات الخاصة بالتحكيم الدولي , بالإضافة إلى أن الوضع الحالي لتوحيد هذه القواعد لم يصل بعد إلى الحد الذي تتطلبه حاجة العلاقات الاقتصادية الدولية , كما أن قواعد الإسناد الموجودة في التشريعات الوطنية تحتوي على نوع من التعسف أحياناً و ذلك بترجيحها قانون معين على قانون آخر.
- إن الدعوة إلى الاعتراف بوجود قواعد قانونية خاصة بالتحكيم التجاري الدولي تملك أهمية خاصة لقيامها على اعتبارات واقعية و قانونية , لكن هذه الدعوة واجهت معارضة في الفقه لاعتبارات سياسية و قانونية أهمها أنها تعبر عن رغبة في الإفلات من القوانين الوطنية بمفاهيمها و مؤيداتها , و تؤدي إلى قيام سلطة جديدة على الصعيد الدولي هي سلطة الأفراد ,  و إلى فرض قانون للتعامل يخدم مصالح المشاريع الاقتصادية الكبرى على حساب المشاريع الضعيفة اقتصادياً.
و في النهاية لا يمكن أن ننكر وجود تلك القواعد و أهميتها , فهي ضمن الخصائص التي تتميز فيها عن القوانين الوطنية يمكن أن تعتبر مصدراً من مصادر القواعد التي تحكم العلاقات التجارية الدولية أمام التحكيم.
 
 
 

المحامية نور جلال رمضان ,نور رمضان,المحامية نور رمضان المحامية نور جلال رمضان ,نور رمضان,المحامية نور رمضان